Monday, June 26, 2023

منفى البيادق المنهزمة في فيينا قراءة في "آه لو تدري بحالي" لأسامة غريب

 

منفى البيادق المنهزمة في فيينا

قراءة في "آه لو تدري بحالي" لأسامة غريب


 

"آه لو تدرى بحالي.. أترى كنت تبالى؟

أم تغالي؟

هل سيرضيك انشغالي

أم سيغريك اشتعالي بالتعالي

أو كما أنت ستبقى شاغلًا بالصمت بالي"

 

كتب كلمات الأغنية الشاعر الغنائي عبد الوهاب محمد، ولحنها رياض السنباطي، وذهب خصيصا بها إلى فيروز لتغنيها، إيمانا منه بأنها الوحيدة التي ستغني هذه الأغنية بإحساس لا يضاهيه أحد في الغناء العربي، وإيمانا منه بقدرته على استخراج الطبقات المخنوقة في صوتها ويقال أنها بالفعل سجلت الأغنية مع أغنيتين كتبهما جوزيف حرب، وكان السنباطي القاسم المشترك، حيث لحن الأغنيات الثلاثة.

هذا التعاون المصري اللبناني في الغناء، بين عبد الوهاب محمد والسنباطي من مصر، وفيروز من لبنان، جعله الكاتب أسامة غريب منطلقا لروايته الأخيرة "آه لو تدري بحالي" (الرواق للنشر والتوزيع، 2021)، التي تدور أحداثها الرئيسة في فيينا، لكن مُحركات الأحداث وقعت في مصر ولبنان وفلسطين وسوريا والعراق والسعودية والمغرب والبرتغال والولايات المتحدة.

عجينة سياسية كثيفة، صبها أسامة غريب في قالب أدبي كبير، يمزج بين الغناء والكتابة، الفن والشطرنج، السلم والحرب، لتخرج روايته "آه لو تدري بحالي" كعمل أدبي إنساني بنكهة تأريخية لأحداث سياسية وعسكرية، شهدتها دول عربية، في فترة مرتبكة من التاريخ "القومي" العربي، بداية من عام 1977 وانتهاء باغتيال السادات في 6 أكتوبر 1981.

البطل الرئيس في الرواية، عادل، الشاب المصري، الطالب الجامعي الذي ينتهي حلمه بالتخرج من كلية الإعلام، ليصبح موزع جرائد على النواصي بعاصمة النمسا، بعدما هرب من اعتقالات السادات، ومعه مجموعات أخرى من المصريين، أغلبهم من الشباب، والبطلة المشاركة نادية اللبنانية التي هربت هي الأخرى رفقة أمها ماجدة، من أتون الحرب الأهلية، بعد مقتل أبيها.

تبدأ الأحداث عام 1978، بوصول الطائرة التي تحمل الطلبة المصريين إلى مطار فيينا، لكنها في الواقع قد بدأت قبل ذلك التاريخ، عندما عبر الجيش المصري قناة السويس لتحرير سيناء عام 1973، وعندما بدأت المعركة الأولى بين الموارنة وبين القوات الفلسطينية في لبنان عام 1975.

البطل عادل، يلعب الشطرنج لأجل المال، بعدما أنهكه توزيع الجرائد على نواصي الشوارع، وحياة المشردين على أرصفة فيينا، وعلى نجيل حدائقها، وفي الأقباء العطنة، والعمل كفواعلي بناء في المجتمع الأوربي الجديد الذي لجأ إليه رفقة مجموعات من الشباب، يمثلون بيادق شطرنج أسقطتها حركات عشوائية من نظام السادات الجديد بعد حرب أكتوبر.

يلجأ عادل وبقية الشباب، من طلاب وعمال، وتلجأ نادية وأمها، ويلجأ محرز المغربي، وعاطف جعفر العراقي، كل هؤلاء طاردتهم الأنظمة السياسية في بلادهم، واجتمعوا في النمسا، بحثا عن ملجأ آمن، مؤقت، كانوا يأملون في العودة، إلى بلادهم، إلى أوطانهم، لكن العسكري في لعبة الشطرنج لا يعود للعبة بعد إسقاطه من ضربة واحدة، فما بالنا بضربات متتالية.



تضعنا رواية أسامة غريب في قلب الأحداث في مصر والبلاد العربية والإسلامية، انتفاضة 77، اتفاقية كامب ديفيد، اعتقالات سبتمبر 1981، واغتيال السادات، الحرب الأهلية اللبنانية، ضرب إسرائيل للمفاعل النووي العراقي، الحرب العراقية الإيرانية، الثورة "الإسلامية" الإيرانية وسقوط الشاه.

يعتمد أسامة غريب أسلوب السرد المباشر، الواضح، دون تعقيد لغوي، دون أن يقف أبطال رواياته خلف أقنعة السرد، ظهر ذلك واضحا في روايته السابقة "عازفة الكمان" (دار الشروق، 2018)، ولا تخلو كتاباته من الإسقاط السياسي المباشر، يعبر عن منظور الكاتب والراوي والأبطال، دون أن يعبأ بتغليف الرؤية بغلاف أدبي فلسفي، أو يتوارى خلف أقنعة تحميه من مغبة الاعتراف، أو يتخفى وراء أسلوب أدبي يجتذب مديح "فرق النقاد المُنظرين".

الملفت أن الكاتب لا يروي قصص أبطاله واضعا حبكة مشدودة بحبال "التشويق" و"الدراماتيكية" الغامضة، وإنما يترك قلمه يهرول، ينتقل من حدث إلى حدث، يربط بين الأبطال بحبكة تقود إليها الأحداث المتسارعة في بلد كل منهم.

لا يهتم أسامة غريب بالغموض، قدر اهتمامه بتصوير معاناة الفرد، يشخص أزمة الذات لدى كل شخصية، الطلاب المصريين الهاربين من الاعتقالات، الموظفين الباحثين عن لقمة عيش بعدما ضيق عليهم عصر القطط السمان، المثقفين الرافضين لسياسات "الرئيس المؤمن"، واللبنانيين المُشردين في بلاد العالم بعدما دمرت الحرب الأهلية بلدهم، وقتلت أهلهم، والعراقيين الهاربين من سلطوية صدام ودموية نظامه، ويجتمع هؤلاء جميعا مكونين شكلا مناظرا لـ"جامعة عربية" في فيينا، مفككة، ضعيفة، يبحث أفرادها عن أمان "مصطنع" في وطن "بديل".

يلعب البطل عادل، الهارب بجواز سفر مزور، الشطرنج لأجل أن يجد شلنات تطعمه وتمكنه من النوم على فراش، ويبحث محمد عن مهرب من مشكلاته النفسية التي هرب منها، حتى وصل إلى حبل مشنقة صنعه بيده في محبسه بالنمسا، ويبحث آخر عن الجنس، متسترا برداء "التدين"، ويبحث واحد عن مهرب من حكم بالسجن عقابا له على جريمة قتل، ويمارس آخر اللواط لأجل المال، وغيره يلعب ملاكم الشوارع، وينصب أحدهم على النساء العجائز، ويبحث الأستاذ الجامعي العراقي عن فتاة يمارس معها الجنس بورقة "زواج المتعة"، وبين هذا وذاك، ترزح الفتاة اللبنانية وأمها تحت سطوة مجنونة لسياسي نمساوي سابق، يميني متطرف، شاذ ومدمن.

سقطت البيادق كلها، على رقع الشطرنج في بلادها، سقطت بحركات غير مدروسة، فقط كيلا يصل النظام في كل بلد إلى نقطة النهاية "كش ملك"، أصبح الأبطال، رغما عنهم، بيادق شطرنج، تتصدر الخطوط الأمامية، وتسقط تباعها، تزهق أرواحها على رقعة الوطن، تهرب على أمل أن تصبح فيينا "ملجأ الأنس".



من الذات إلى النحن يتحرك أبطال الرواية، في واحد من الأحداث يجتمع عادل ومحمد وعزت كلوت وسيد الأستورجي وطه وحسنين وسامي المعفن وينضم إليهم مجدي زينهم الوصولي الذي يعيش على أموال زوجته النمساوية العجوز المحتضرة، يتجمع البيادق الثمانية، يبرز اصطفافهم حول قرش الحشيش، ثم سقوطهم جميعا في هذا المشهد المعبر عن انهيار اللعبة، تزامنا مع حركات متسارعة على رقع الشطرنج في البلاد العربية والشرق الأوسط، يتحرك الأبطال بحثا عن ملاذ في النمسا التي يبحث مواطنوها عن قومية جديدة بعد انتهاء فكرة "ألمانيا الكبرى".

يسقط الجميع، عسكري تلو الآخر، ليبقى الملك والملكة، لأن البيادق التي تتحرك لمربع واحد لابد أن تسقط أولا، وتُلقى خارج اللعبة بضربات سريعة، لأنها كما يقول الكاتب "غلابة يا أخ عفركوش".

يتفرق الصف الأمامي من البيادق، وقود المعارك، تبحث الأنظمة عن بيادق بديلة توقفها قبلما تُلعب حركة "كش ملك"، فيم تغني فيروز على ألحان السنباطي، أغنية لم تخرج للنور:

"رغم حبي وحنيني وشقائي بالتنائي

رغم وهمي وظنوني وعنائي اللانهائي

رغم علمي ويقيني أن في الوصل دوائي

لست أرضى أن تجيء مجاملا دون انفعال

ولذا كان سؤالي..آه لو تدري بحالي"

ومن يدري بأحوال البيادق المنهزمة؟!



 

محمد عبد الدايم هندام، كاتب، صحفي حر، أكاديمي، مدرس الأدب العبري والدراسات الإسرائيلية، كلية الآداب، جامعة المنصورة، مصر

https://moabdel-dayem.blogspot.com/

https://www.facebook.com/MoHendam

https://twitter.com/MoHendam

linkedin.com/in/mohammed-abd-el-dayem-89101051

 

 

 

  

 

 

 

 

  

 

 

Friday, June 09, 2023

ما أطلقته فاطمة خارج أقفاصها.. قراءة في أقفاص فارغة لفاطمة قنديل

 

ما أطلقته فاطمة خارج أقفاصها

قراءة في أقفاص فارغة لفاطمة قنديل

 

"يا أنقاضي ما أجملك! كل حجر فيك حلم ببيت:

ورأيت فاطمة الليلة، حين فتحت باب بيتي، كما توقعت أن أراها: كانت تستند بظهرها إلى الجدار وترتجف. ركلتها بقدميّ، وسرت منتشية كتمثال من الشمع، سرت مسرعة خشية أن أذوب قبل أن أصل إلى غرفتي، خشية أن أراها تكشط – بانهماك- ما تجمد مني فوق الأرض".

(فاطمة قنديل، بيتي له بابان، دار العين للنشر، 2017، ص 99)



منذ ما يقرب من عام حلمت بها، زارتني فاطمة قنديل في حلمي، استقبلتني على باب بيتها، حيث توجهت إليها لتوقع لي على ديوان "بيتي له بابان" (دار العين للنشر، 2017)، فأهدتني كتابين من إبداعها، أحدهما "أقفاص فارغة"، وعندما استيقظت قررت الحصول على الرواية الصادرة عن دار الكتب خان، 2021، وحصلت على جائزة نجيب محفوظ في الآداب 2022.

تتكون الرواية من أربعة أجزاء عنونتها الكاتبة بـ

·        علبة شوكولاته..صدأت للأسف!

·        البداية..حب وشجن وأوتار كمان.

·        غرباء ..يلعبون معا البنج بونج.

·        الغائب يعود في موعده..قبل بدء العرض!


اعتراف شخصي: أبكتني الرواية ليلة أمس.

عزوف البدايات

أخصص وقتًا للرواية، يختلف في طبيعة حالتي المزاجية، وأوقات العمل والراحة، وقت الرواية يختلف عن وقت المجموعة القصصية عن وقت الديوان الشعري، استقللت القطار في موعد صباحي، وجدت مقعدًا بجانب الشباك، أغلقت بيانات المحمول كيلا أنشغل بالإشعارات والبريد، وشرعت في مطالعة أقفاص فاطمة قنديل.

ما إن بدأت القراءة حتى شعرت بعزوف، اختبرت الكتابة التي تستهل من علب الخيط والشكمجيات والشوكولاتة، عاينت كثيرا من الروايات المنبثقة من العلبة الصفيح التي تبقى في البيت، تحتفظ بعبق السكان والذكريات، هممت بإغلاق الرواية، لكن بعد عدة صفحات انجذبت كالولهان، انتهى عزوفي فورا عند الصفحة 12 مثلما انتهت شجرة الخشخاش بعدما أحرقتها أم فاطمة.

الكتابة هي الموت

تسير فاطمة على مهل، تتبع مسيرة أسرة مصرية، تتدحرج في مدارات الطبقة الوسطى، تصعد وتهبط، تدور في فضاء واسع يضيق بمرور الوقت، البطلة، الراوية العليمة، الابنة الصغرى للأسرة الصغيرة، آخر العنقود، التي تسير على مهل، تتلكأ كثيرا، تستمتع بطفولة عادية، لا تخلو من التعقيد، تتعايش مع رحلة طويلة لأسرتها من مدينة السويس، وصولا إلى أطراف القاهرة، الفارغة حينئذ، المزدحمة الكبيسة الآن.

فاجأني الأسلوب السردي السلس الذي تتناول به البطلة سيرتها الذاتية من الطفولة إلى اليوم، من التفتح إلى الذبول، هذا الأسلوب الذي يكشط بكل بساطة ذكريات تجمدت على حوائط البيت، كأنها جراح متمرس، يشق بالمبضع جسدًا مسجى على طاولة العمليات، يُخرج ورما متوحشا، وهو يدندن بمقطع لأم كلثوم، ويشرب شايا، تعاملت الراوية مع الأحداث مثلما تعاملت مع الأورام السرطانية التي ماتت بسببها أمها، وتركت نفسها ككرة بنج بونج، تتضاربها المضارب.

تتحرك أحداث الرواية أفقيا تارة، ورأسيا تارة أخرى، تعاين سيرة وطن، من وقت حرب 67 إلى اليوم، تهاجر البطلة من السويس، وتعيش مع أسرة تحطمت بأيدي الرأسمالية الجديدة، وأموال الخليج، والاغتراب في الوطن، والصراعات العائلية، وغيرها من القوى الباطشة التي هدمت حوائط البيت، حتى ارتفعت فوق أنقاضه عمارة شاهقة، كتبت موتًا لجيل كامل.

شجاعة الجبن



تتقاطع مسارات الرواية مع الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في مصر، منذ وقت ما قبل الانفتاح، مرورا بالفترات الشائهة قبل الألفية الجديدة، وصولا إلى الحاضر المكتنف بغموض وريبة، تتناول فاطمة قنديل قضايا شائكة، وتتحدث عن تابوهات مصرية، بكل جرأة، وبكل وجع، تنز ألما مع كل سطر تكتبه، وكأنها تكشط من روح البطلة لتخط مسيرة شخصية مفعمة بذكريات الوحدة والاغتراب.

تتبدى ذاكرة القنوط والألم النفسي، وتداعي الذات وانكسار الروح، مع حديث البطلة عن عائلتها الكبيرة، واسرتها الصغيرة، في كل فقرة يتفكك جزء منها ليسقط في الطريق الوعر الذي سارته هذه البطلة من السويس إلى القاهرة، والمفارقة المدهشة أنها تكتب بكل شجاعة سردية، رغم أنها تقول إننا "نجبن حين نكتب، وننشر على الملأ ما عشناه".

في أقفاص فارغة، تركت فاطمة قنديل اللغة الشعرية، نحتها جانبا، ظاهريا، لكنها لم تحول بينها وبين شعور المتلقي، فظهرت في تفاصيل حياة البطلة، رغم أنها قصتها تبدو وكأنها سرد متداع خال من القوالب البلاغية المعتادة، وثقت فاطمة أحداثا صغيرة وأخرى كبيرة، بأسلوب سردي جريء، لتكتب تأريخا عاما لملامح عصر وبيئة مصرية جرفتها تيارات هائجة، من الداخل والخارج.

تتحرك الشخوص في اتجاهات مغايرة، خطوط دائرية شكلت متاهات، تاه فيها الأب والأم، الأخ الهارب من واقعه إلى ألمانيا، والعائد ليلقى مصيره في دار مسنين، والآخر الهلامي، الذي قايض روحه وأسرته بأموال الخليج، صاحب البيت، والدادة، الزوج الأول المنتفع بالانفتاح، والثاني المضطرب نفسيا، العمة والخالة، وقبلهما الأجداد، وأخيرا البطلة التي يتحول صوتها السردي من البراءة إلى الجرأة، من الخنوع إلى التمرد، من الأنوثة إلى الذكورة، من التطلع الحالم للمستقبل، إلى القنوط واليأس، تجمع في علبة الشوكولاتة ماضيا، وتحبس روح الأنثى الحالمة في أقفاص فارغة فوق سطح بيتها، لكنها تُفاجأ باختفاء الأقفاص، وخروج الروح لتهيم في صورة إنسان مغاير تماما.

تدفق السيرة

وكأن الساردة قد تعمدت أن تترك الحكاية تتدفق دون أن تحبسها، أو تشذب أطرافها، أو تقوم تعاريجها، نحت خوفها، وأزاحت رعبها من وجود قارئ يقرأ ما كتبته، فقط ظلت طوال الرواية تكشط وتراقب الدم المتدفق، تغير ضمادات الجروح التي أنشبها الواقع، ونكأتها الذاكرة.

رواية السيرة الذاتية هي شكل من أشكال السرد يكشف فيه شخص واقعي عن سيرة حياته، عبر كتابة إبداعية، وتتفاعل هذه الشخصية، التي تتراوح بين الواقع والخيال في العمل، مع شخصيات أخرى، وإشكاليات اجتماعية، وفضاءات كائنة أو وهمية، من خلال أسلوب خاص، وتحدثت فاطمة قنديل في سردها معتمدة على الضمير الأول، ضمير المتكلم، فأكدت على تمثل شخصيتها حاضرة في عملها الروائي.

لم تعبأ فاطمة قنديل بالفوارق بين السيرة الذاتية بغرض التأريخ وضبط الحقائق، وبين رواية السيرة الذاتية ذات الصبغة الأدبية الخيالية، وإنما أقعدت بطلة القصة على كرسي اعتراف، تدخن السيجارة وتشرب البيرة وتربت على القطة، وتتداعى في طقس سردي اعترافي، لم يعد يهتم بالسبب والنتيجة، ولا يعبأ بما تصير إليه الأمور بعد جلسة اعترافاتها، الاعترافات التي تركت الأقفاص فارغة، وأصبحت حرة أخيرا، ترمم التصدعات، وتقوض أساسات أخرى، تبني وتهدم عبر فقرات سردية تحمل مفارقات خاطفة، تذروها الأيام خارج علبة الشوكولاتة الصدأة.

فتحت فاطمة قنديل علبة الشكولاته، لكنها لم تصلح أطرافها التي انزلق مسماراها، فظلت العلبة مفتوحة، لتخرج منها بداية الأحداث، أحداث الحب والقهر، الشجن واليأس، يتصارع خارجها الغرباء، يلعبون البنج بونج، وتنتظر الكاتبة أن يعود الغائب في موعده، قبل بدء العرض الذي يبدو أنها تعمدت أن يكون عرضا انفعاليا أناركيا تخرج بطلته عن النص.

 

محمد عبد الدايم هندام

محمد عبد الدايم هندام، كاتب، صحفي حر، أكاديمي، مدرس الأدب العبري الحديث والدراسات الإسرائيلية، كلية الآداب، جامعة المنصورة، مصر

https://moabdel-dayem.blogspot.com/

https://www.facebook.com/MoHendam

https://twitter.com/MoHendam

linkedin.com/in/mohammed-abd-el-dayem-89101051

 

 

 

 

 

Monday, May 15, 2023

تهويدة لتميم... من شر الدرع والسهم

 

تهويدة لتميم

من شر الدرع والسهم

                                                                        إلى تميم داود



محمد عبد الدايم هندام، طال نيتسان

 

دخل وقف إطلاق النار بين إسرائيل والفصائل الفلسطينية في غزة حيز التنفيذ بداية من الساعة العاشرة من مساء السبت 14 / 5، إيذانا بانتهاء عملية "درع وسهم" التي بدأها جيش إسرائيل على غزة يوم الثلاثاء 9 مايو 2023.



وفقا لما أعلنته وزارة الصحة بغزة؛ فقد استشهد 33 فلسطينيا، بينهم أطفال ونساء، وأصيب ما يزيد عن 190 آخرين بجروح مختلفة، جراء العملية التي أطلق عليها الجهاد الإسلامي "ثأر الأحرار".

نشر موقع Middle East Eye خبرًا يفيد بمقتل الطفل الفلسطيني تميم داود، 5 سنوات، جراء الهجوم الإسرائيلي على غزة، حيث ذهب إلى فراشه ليلة الاثنين في منزله بحي الرمال وسط قطاع غزة، كان الطفل ينتظر الذكرى الخامسة ليوم ميلاده الشهر المقبل، عندما استهدفت غارة جوية إسرائيلية مبنى سكني بجانب منزله، فاستيقظ خائفا ومرتعبا.



بكى تميم، عانى نوبة هلع، لم تفلح محاولات أمه لينا في تهدئته، استمر في البكاء حتى أصيب بضيق في التنفس، ثم عاد لنومه، ومن ثم استيقظ مرة أخرى فزِعا، نقله والده للمستشفى، لكن في الطريق قلبه توقف عن العمل.

لم يحتمل قلب الصغير هدير الرعب، لم يحتمل دوي القصف، وُلد تميم في "أكبر سجن مفتوح في العالم" ، وعندما كان يبلغ من العمر ستة أشهر فقط ، خضع لعملية قلب مفتوح في الضفة الغربية المحتلة.





 

تجاوبا مع وفاة تميم (البريء) كتبت الشاعرة الإسرائيلية طال نيتسان قصيدة للطفل الذي عاش حياته القصيرة جدا في أكبر سجن بالعالم، ومات مرتعبا، توقف قلبه عن الخفقان بسبب عملية درع وسهم، تقول طال نيتسان في قصيدتها:

النجم الأخير

(تهويدة تميم)

 

إنها ليلة مرصعة بالنجوم

تتساقط نجوم ونجوم

على نومك المرتعش

على قلبك الصغير.

 

والليل حالك السواد مثل محيط

ولا ضوء صباح في نهايته

ولا أماني

ولا إنسان.

 

طفل يتنفس، يتردد، يختفي

من تستطيع البكاء

بيدها الآثمة

بقلب متحجر

 

عيناك في الصورة لم تعرف

أن النجم الأخير

لن يكون نجمًا

بل سيبتلع قلبك الصغير.

 


 

طال نيتسان رفقة الشاعرة ريكي كوهين والشاعر جيء بيرل في مظاهرة ضد السياسات الإجرامية للحكومة الإسرائيلية ضد
الشاعرة طال نيتسان تتوسط الشاعر جيء بيرل والشاعرة ريكي كوهين، في مظاهرة ضد العدوان الإسرائيلي على غزة.

تحرير، وترجمة عن العبرية والإنجليزية: محمد عبد الدايم

محمد عبد الدايم هندام، كاتب، صحفي حر، أكاديمي، مدرس الأدب العبري الحديث والدراسات الإسرائيلية، كلية الآداب، جامعة المنصورة، مصر

https://moabdel-dayem.blogspot.com/

https://www.facebook.com/MoHendam

https://twitter.com/MoHendam

linkedin.com/in/mohammed-abd-el-dayem-89101051

Sunday, May 14, 2023

كلب المعمل سيرة طبيب وسيرة كلب

 

كلب المعمل

سيرة طبيب وسيرة كلب

 

إبراهيم البجلاتي، كلب المعمل، رواية، مركز المحروسة للنشر، القاهرة 2022.

"تأخذه الرقة بعيدا

يكتب تاريخا مرضيا لنفسه

يوقف الزمن

منذ ثلاثين عاما

أو قبل ثلاثين عاما

ليس مجازا

بل حدث بالفعل ومنذ ثلاثين سنة بالكمال أحب:

جرس الإنذار بأجهزة التنفس الصناعي

رشاقة المعدن

لهفة الأصابع في الدماء

الذاهبين إلى الألم

العائدين إلى الحياة

سطوة الأبيض الملائكي

عزلة الإله في غرفة العمليات

رهافة الأزرق

دفقة البول في الأكياس

بهجة الأسرة حين ينخفض الأنين

النداء الآلي

مطلوب في الطوارئ الآن

الآن

كأن الوقت لا يفنى

..."

إبراهيم البجلاتي، أنا في عزلته، شعر، دار بدائل للنشر والتوزيع، ص 6- 7

 

 


حيوانات البجلاتي

في ديوانه الشعري "حكاية مطولة عن تمساح نائم" (دار ميريت، 2016) طاف إبراهيم البجلاتي بقرائه عالم الحيوان، عملت الذات الشاعرة في قصيدة نثر طويلة، بطول الكتاب، على أنسنة كائنات حية، ما بين الحشرات والحيوانات، من فصائل مختلفة وأحجام، الحقيقي منها والأسطوري، البري والبحري، المستأنس الداجن والأليف والمتوحش، تحدث البجلاتي عن التمساح، بطل ديوانه، وابن آوي، والسلحفاة والفأر والقط والبقر الوحشي والحمار الوحشي والثور والجاموس والغزال والقط البري والنعجة والخفاش والجمل والزرافة والحصان والقرد والسمندر، النعامة والطاووس والبطة والعصفور والهدهد، العقرب واليعسوب، الأخطبوط والضفدع والسلطعون والحلزون والحوت، حتى الديناصور النباتي والعنقاء والتنين، وغيرها من الكائنات الحية،

ظهر عالم الحيوان في الفضاء الشعر لإبراهيم البجلاتي، في ديوان التمساح، وقبله في "أنا في عزلته (دار بدائل، 2014)، وبعده في "ماذا يفعل الرومانسيون غير ذلك" (الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2018)، و"شاي وبرتقال وأجنحة خضراء" (الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2020).

تتشكل الرؤية الشعرية لإبراهيم البجلاتي من علاقة وشيجة بين الروح والجسد، بين الإنسان والكائنات الأخرى بالعالم، في إطار من التماهي بين العاقل وغير العاقل، بين الآدمي والحيواني، بين المستأنس والهمجي المتوحش، ولكن ما يميز لغته الشعرية بشكل عام هو الصفاء، الشفافية اللغوية التي تحيل المتلقي إلى عالم بسيط على تعقيداته، عالم رائق على عكارته، عالم غني بالإيحاءات الشعرية التي تعمل في الأساس على تأطير صورة الأنا البشرية والآخر، كل ما عدا الذات الشاعرة هو آخر، إنسان أو حيوان أو نبات أو هيكل أسطوري موروث.

في روايته الأخيرة "كلب المعمل" (المحروسة، 2022) يُصدر البجلاتي حيوانًا آخر ليصبح بطل عمله، أو أبطال عمله، حيث تقوم الرواية على سرد أحداث تجري بين الراوي وبين كلاب مختلفة أنواعها وألوانها وصفاتها، في رواية تبدو سيرة ذاتية لطبيب المسالك البولية، وسيرة ذاتية لكلاب شتى.

في روايته البكر "سندروم" (دار الدار، 2009) يستهل الكاتب الطبيب إبراهيم البجلاتي الحكي عن سيرته الذاتية، سيرة الذي وُلد بالمنصورة، وتخرج من جامعتها طبيبا للمسالك البولية، وليس هو أول روائي طبيب يتخرج من طب المنصورة، وليس أول كاتب طبيب يكتب إرهاصات من سيرته الطبية في إطار روائي، لكن البجلاتي يتحرك روائيا بين المستشفيات الجامعية والعامة والخاصة والمراكز الطبية المتخصصة، ويصطحب معه في رحلته كلابًا ضمن أبطال روايته الجديدة، بل وصدّر الكلب كبطل رئيس للعمل، في عتبة العنوان، ينافس الراوي على موقع الصدارة في الرواية الطويلة (428 صفحة)، ومع ذلك فقد استغرقت الأحداث حيزا زمنيا قصيرًا إلى حد ما، لكن الاسترجاع الزمني بسيرة الطبيب البطل وكلابه قد أوغل في القدم.

تدور أحداث الرواية، وفقا للتصدير الدعائي للعمل، عن "طبيبٍ شابٍ، يَبتكر عمليةً جراحيةً جديدةً، وبحكم القواعد العلمية يتوجب عليه أن يُجرب الطريقة الجديدة في الكلاب؛ للتأكد من النتائج وقابلية التنفيذ في البشر. يعاني الطبيب الشاب من خوف مرضي من الكلاب، فكيف يتغلب على خوفه؟ بل ويُعيد اكتشاف الكلب، أقدم صديق للإنسان، وأكثرِ الحيوانات المدجَّنة وفاءً لصاحبها، وفي الوقت نفسه يُعيد اكتشاف نفسه، ويكشف عن الخلل الجوهري في منظومة الطب والبحث العلمي، دون أن ينسى أن يكتب مقالًا عن: الحُزن التَّشريحي لعُيون الكلاب". لكن الرواية في الواقع لا تنشغل كثيرا بالطريقة الجديدة في علاج حالة عويصة من حالات المسالك البولية، بقدر ما تشتغل في تشريح "طبي" و"روائي" لمشاعر إنسانية هجينة، بين الخوف والشجاعة، الجرأة والتراجع، الحزن والفرح، الإقدام والتقهقر، الطموح والانهزام، الجنوح والعقلانية، الألفة والتوحش، وغير ذلك من المشاعر التي وجدها الراوي وشعر بها كإنسان، ورصدها عن قرب مع معايشته للكلاب التي يجري عليها تجارب علمية طبية، يستهدف منها الطريق المثلي لكي يدر الإنسان بوله بشكل طبيعي.

ينشغل الراوي بالتفكير في مسألة تكيف الكلب مع الإنسان، يرجع البطل إلى أمهات الكتب، في محاولة لفهم تاريخ العلاقة بين الطرفين، يرجع لمؤلف الدميري "كتاب حياة الحيوان الكبرى"، لكنه يتوه في مقدمة المؤلف ومنهجه في التصنيف، وخلطه بين العلمي الدقيق وبين الشعبي العبثي، ينفر منه ويستعين بـ "كتاب الحيوان" للجاحظ، ويسرد عبره مسيرة الكلب، من بدايات علاقته بالجنس البشري حتى الآن.

ولأنه طبيب مثقف، يعج فكره بالتساؤلات، وتصطدم مسيرته الحياتية والعملية بكلاب شتى، في الشوارع والبيوت ومراكز الكلى؛ فإن الراوي يستعين بكتاب كونراد لورنتس، عن عالم الحيوان، (ترجمه الكاتب عن الفرنسية ونشره مركز المحروسة بعنوان "والتقى الإنسان بالكلب) وهو الكتاب الذي يتحدث فيه العالم المتخصص عن سلوك الحيوانات المستأنسة والطيور والأسماك، ويؤرخ للكلب كأول حيوان مستأنس، ويتناول تاريخه الطويل من التحول والتطور، من الجر والحمل والنقل والمشاركة بالصيد، وصولا إلى الصداقة العميقة مع الإنسان، وهي علاقة "محبة" خالصة، غير مشروطة، دون تخطيط مسبق، دون مقابل، محبة مجانية، لا تخضع لنظرية "رد الفعل المنعكس الشرطي" للطبيب الروسي إيفان بافلوف.

يحمل البطل خوفا مكتوما من الكلاب، خوفا منها يتحول مع الأحداث إلى خوف عليها، إلى ترابط إنساني حيواني، ينتهي عندما يرى البطل الحزن في عيني كلبه الأخير الذي مات جراء التجربة المعملية على مسالكه البولية، ويجر خلفه إلى العالم الآخر مجموعة أخرى من الكلاب، بموتها يموت أمل مهزوز لدى البطل، تموت كلاب المعمل، فتفشل تجربة البطل، لكنه يكتشف أن فشله "ليس سيئا تماما بل يمكن أن يكون حلا من الحلول"، لأن موت الكلب واحد لا ينهي على بقية الكلاب:

نجحت تجاربنا

والكلب يا أستاذنا العزيز مات

لكن سيظل في الدنيا كلاب 

حتى القيامة والحساب (ص 20، ومواضع أخرى)

كل كلاب الباشا

تعمل الرواية على تعرية قطاع كبير من المنظومة الصحية العملية، تنهض على تشريح العلاقة بين أفراد القطاع الطبي، بنوعيهم، الجامعي وغير الجامعي، لتظهر النظرة الدونية التي ينظر بها الأطباء من أساتذة الجامعات إلى نظرائهم ممن لم يعملوا كهيئة تدريس أكاديمية، كما يشرح الكاتب هوس بعض الأطباء باللقب العلمي، من أجل إضافة حرف الدال إلى أسمائهم لتزين اللافتة الدعائية، ويستقطبون بها "الزبائن"، ويدحرون بها طموح غيرهم، كيلا يسحبون الزبون من عياداتهم الخاصة.

لكن الشخصية الأبرز التي اشتغلت كبطل رئيس، يخطط وينفذ، يُعلي ويُنزل، يتحكم بمصير الراوي، ويحكم عليه، هي شخصية "الباشا"، مدير المركز الطبي الجامعي المتخصص في أمراض الكلى، وهذه الشخصية الروائية إسقاط على شخصية حقيقة في العالم الواقعي، معروفة بأنها تمثل "الديكتاتور العادل"، المدير الصارم، الذي يسيطر على مركزه، وأطبائه، ومرضاه، وتجاربه، مثلما يسيطر "أبو شنب" (البيطري مسئول الكلاب بالمركز) على الكلاب، يسحبها، يربطها، يلجمها، يضربها، يربت عليها، يكلمها، ويطعمها، ويشهد موتها أو ينفذ القتل الرحيم.

تظهر سلطوية الباشا في التفرقة بين أطباء المركز من الأكاديميين الجامعيين، ونظرائهم الذين لم يتمرغوا في "ميري" الجامعة، وهي سلطوية منفرة، برائحة نفاذة، تكاد تخنق روح الطبيب أكثر من رائحة أمعاء الكلب المُشرح على طاولة التجربة المعملية، يتعامل "الباشا" مع البطل بأبوية أكل عليها الدهر وشرب، الأب "العام" الذي "يلعن جدوده أمام الجميع"، ويضع يده على كتف البطل بعفوية.

مسالك الطب ومسيرة الكلاب

ربما يفصح الكاتب/ الراوي للمرة الأولى عن الزمن الروائي بعد مرور ردح من الأحداث التي عاصر فيها كلابا وبشرا، من أطياف مختلفة، وطاف بالمتلقي شوارع المنصورة وحاراتها التي لم يعد بعضها على حاله مثلما كان في تسعينيات القرن الماضي.

تحفل الرواية بتجارب طبية متخصصة في المسالك البولية، يسير الكاتب / الراوي على مهل ليشرح المصطلحات الطبية والتقنيات العلمية بلغة مبسطة لا يستهدف منها تعقيد الفكرة على المتلقي، بقدر ما يستهدف محاولة فك التعقيد الذاتي المُلغز الذي يكتنف مسيرة البطل، ويقطع أمعاء كلابه، ويلقي بهم على طاولة المعمل، قبيل انتهاء دورهم كـ "كلاب معمل" يختبر الطبيب فاعلية الصمام الذي يُركبه لتحويلة المسالك البولية للكلب، وفي الوقت نفسه يفضح فاعلية المنظومة الطبية في المستشفيات المصرية، بأنواعها، بالمنصورة، والقاهرة، وبورسعيد، هذه المنظومة متنوعة الألوان والأحجام، مثلها مثل كلاب المعمل التي تُقتل لأجل البحث العلمي، يتناول الكاتب مسائل عديدة كسرقة الرسائل العلمية، واهتراء المستشفيات، وتحول مهنة الطب إلى "سبوبة"، وغيرها من مشكلات الطب والبحث العلمي في مصر.

في سرده لمسيرة الطبيب وكلابه يبدو إبراهيم البجلاتي حريصا في لغته على تبسيط مشاهد الرحلة للمتلقي، يخرج كثيرا من غرفة العمليات، ينفث الثقل العلمي مع دخان سجائره، لأن العمل في الأخير ليس لغاية علمية متخصصة، بقدر ما يحمل تفاصيل رحلة طويلة، إنسانية فردانية وجمعية، وحيوانية كذلك، رحلة الإنسان والكلب، منذ بدايات ارتباطهما حتى الآن، تقطعها وقفات قصيرة للبطل الطبيب الذي يشرب الشاي دائما، ولا يشرب القهوة، في المعمل، في المخبأ الذي يختلي فيه الأطباء للتدخين، في شوارع المنصورة، في حجرة الطبيب المنتحر، أو على كرسيه الأثير بحجرته، وغير ذلك من الأماكن التي يتحرك فيها البطل بسرعة شديدة، تناسب حركة طبيب شاب يبحث عن حلم غامض، يبحث عن نجاح عملي، وإجابات على أسئلة إنسانية.

انفتحت الرواية على نهاية مفتوحة، فشلت تجربة الطبيب، أو فشلت خطوة من خطواتها، لكن هذه المسيرة الطويلة كشفت له "الحزن التشريحي لعيون الكلاب... التي تخفي تركيبا هشا وكائنا تابعا لا يعاني من عقدة أوديب"، هذا التماهي بين حالات الكلب، وسماته، وخصاله، وصيرورة مسيرته هي الشغل الشاغل للكاتب الذي دشن عملا روائيا مقارنا بين الإنسان والكلب، إلى درجة أن يتعلق مصير الإنسان بمصير كلب.

بعد مسيرة طويلة، اكتشف البطل أن بإمكانه أن يحلم، وهذا ما اعتبره نجاحا يعوضه عن "الفشل" الوقتي للتجربة، يتوقف عند مفرق مزلقان القطار، لينفتح المفرق على مسالك مختلفة، مسلك استكمال الكفاح للحصول على الدكتوراة، ومسلك الخنوع لسطوة "الباشا"، ومسلك البحث عن المال، في مصر أو الخليج، ومسلك السعي للترقي الوظيفي بالعمل في منطقة نائية، ومسلك ترك المعمل وكلابه والسفر للخارج، وبين هذه المفارق يقف الراوي/ الطبيب / البطل يفكر فيما يفعل بـ "نبتته الوهمية". وكذلك تبدو مسيرة الكلب، من بدايات لقائه بالإنسان، حتى وصوله جثته إلى المعمل، مسيرة تتراوح بين الصعود والهبوط، الانهزام والنصر، بين كونه صيادًا وبين كونه فريسة محل تجارب علمية، وهنا يبدو التماهي بين مشهد الكلب المصلوب على طاولة المعمل، ومشهد المسيح على الصليب، فالتناص هنا يحيل الكلب إلى صورة إنسانية بشرية، صورة إنسان يتعذب من أجل صالح البشرية. 

لا يفوت الراوي أن يعرج كثيرا على دروب الواقع الاقتصادي والاجتماعي العام بمصر بعد تفكيك الاتحاد السوفيتي، وانزواء اليسار، في مقابل صعود نهم لرأس المال، الذي أحال الإنسان إلى عملة، والطب إلى بيزنس، والمريض إلى زبون، والدكتوراة إلى صمام مسالك بولية.

على طول الرواية يبحث الطبيب عن مسار سلس لمجرى البول، ومسالك آمنة لتجارب فردانية، تأخذه الرقة، فيكتب تاريخا مرضيا لنفسه، يوقف الزمن، يتطلع إلى رشاقة المعدن، ولهفة أصابعه في الدماء، والكلاب الذاهبة إلى الألم، والعائدة إلى الحياة، وعزلة المُجرب في غرفة العمليات، برهافة الأزرق، ودفقات البول في الأكياس، وبهجة أسرة المرضى حين ينتهي الأنين، وصوت النداء الآلي، مطلوب في الطوارئ الآن، الآن، في كل وقت، حتى تزهق روحه، أو تموت الكلاب، أيهما أقرب.



 

محمد عبد الدايم هندام، كاتب، صحفي حر، أكاديمي، مدرس اللغة العبرية الحديثة وآدابها، كلية الآداب، جامعة المنصورة، مصر

https://moabdel-dayem.blogspot.com/

https://www.facebook.com/MoHendam

https://twitter.com/MoHendam

linkedin.com/in/mohammed-abd-el-dayem-89101051